سورة سبأ - تفسير تفسير أبي السعود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (سبأ)


        


{افترى عَلَى الله كَذِبًا} فيما قاله {أَم بِهِ جِنَّةٌ} أي جنونٌ يوهمه ذلك ويُلقيه على لسانِه. والاستدلالُ بهذا التَّرديدِ على أنَّ بين الصِّدقِ والكذب واسطةً هو ما لا يكون من الإخبار عن بصيرةٍ بين الفساد لظهور كون الافتراء أخصَّ من الكذبِ {بَلِ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالاخرة فِى العذاب والضلال البعيد} جوابٌ من جهة الله تعالى عن ترديدِهم الوارد على طريقةِ الاستفهامِ بالإضرابِ عن شقَّيهِ وإبطالِهما وإثباتِ قسمٍ ثالثٍ كاشفٍ عن حقيقةِ الحال ناعٍ عليهم سوءَ حالهم وابتلاءهم بما قالُوا في حقِّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ كأنَّه قيل: ليس الأمرُ كما زعمُوا بل هم في كمال اختلال العقل وغاية الضَّلالِ عن الفهم والإدراك الذي هو الجنون حقيقةً وفيما يؤدِّي إليه ذلك من العذابِ ولذلك يقولون ما يقولون. وتقديمُ العذاب على ما يُوجبه ويستتبعه للمسارعةِ إلى بيانِ ما يسوؤُهم ويفتُّ في أعضادِهم والإشعارِ بغاية سُرعة ترتُّبِه عليه كأنَّه يُسابقه فيسبقه. ووصفُ الضَّلالِ بالبُعد الذي هو وصف الضَّالِ للمبالغة. ووضعُ الموصولِ موضعَ ضميرِهم للتَّنبيهِ بما في حيِّزِ الصِّلةِ على أنَّ علَّةَ ما ارتكبُوه واجترؤا عليه من الشَّناعةِ الفظيعةِ كفرُهم بالآخرة وما فيها من فنون العقاب، ولولاه لما فعلُوا ذلك خوفاً من غائلتِه وقوله تعالى {أَفَلَمْ يَرَوْاْ إلى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مّنَ السماء والارض} استئنافٌ مسوق لتهويلِ ما اجترؤا عليه من تكذيبِ آياتِ الله تعالى واستعظامِ ما قالُوا في حقِّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وأنَّه من العظائمِ الموجبة لنزول أشدِّ العقاب وحلول أفظع العذاب من غير ريثٍ وتأخير. والفاءُ للعطفِ على مقدَّرٍ يقتضيه المقامُ وقوله تعالى {إِن نَّشَأْ} الخ، بيانٌ لما يُنبىءُ عنه ذكرُ إحاطتِهما بهم من المحذورِ المتوقَّعِ من جهتهما وفيه تنبيهٌ على أنَّه لم يبقَ من أسباب وقوعِه إلا تعلُّقُ المشيئةِ به أي فعلُوا ما فعلُوا من المنكر الهائلِ المستتبع للعُقوبة فلم ينظروا إلى ما أحاطَ بهم من جميع جوانبهم بحيثُ لا مفرَّ لهم عنه ولا محيصَ إنْ نَشَأْ جرياً على موجب جناياتِهم {نَخْسِفْ بِهِمُ الارض} كما خسفناها بقارونَ {أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً} أي قِطعاً {مّنَ السماء} كما أسقطناها على أصحابِ الأَيْكةِ لاستيجابهم ذلك بما ارتكبُوه من الجرائم. وقيل: هو تذكيرٌ بما يُعاينونَهُ ممَّا يدلُّ على كمال قُدرتِه وما يحتمل فيه إزاحة لاستحالتِهم البعث حتى جعلُوه افتراء وهُزؤاً وتهديداً عليها، والمعنى أعمُوا فلم ينظروا إلى ما أحاطَ بجوانبهم من السَّماءِ والأرضِ ولم يتفكَّروا أهمْ أشدُّ خلقاً أم هي وإنْ نَشَأْ نخسف بهم الأرض أو نُسقط عليهم كِسفاً لتكذيبِهم بالآياتِ بعد ظهورِ البيِّنات فتأمَّلْ وكن على الحقِّ المُبين. وقرئ: {يَخسف} و{يَسقط} بالياء لقوله تعالى: {افترى عَلَى الله} وكِسْفاً بسكون السِّينِ {إِنَّ فِى ذَلِكَ} أي فيما ذُكر من السَّماء والأرضِ من حيث إحاطتُهما بالنَّاظرِ من جميع الجوانب أو فيما تُلي من الوحيِ النَّاطقِ بما ذُكر {لآيَةً} واضحةً {لّكُلّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ} شأنُه الإنابةُ إلى ربِّه فإنه إذا تأمَّلَ فيهما أو في الوحيِ المذكورِ ينزجرُ عن تعاطي القبائحِ وينيبُ إليه تعالى وفيه حثٌّ بليغٌ على التَّوبةِ والإنابة وقد أكدَّ ذلك بقولِه تعالى:


{وَلَقَدْ ءاتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً} أي آتيناه لحسن إنابتِه وصحَّةِ توبته فضلاً على سائر الأنبياءِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ أي نوعاً من الفضل وهو ما ذُكر بعد فإنَّه معجزةٌ خاصة به عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أو على سائر النَّاسِ فيندرج فيه النُّبوةُ والكتاب والمُلك والصَّوتُ الحسن فتنكيره للتَّفخيمِ ومنَّا لتأكيدِ فخامتِه الذَّاتيةِ بفخامته الإضافيَّةِ كما في قوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا} وتقديمُه على المفعولِ الصَّريحِ للاهتمام بالمقدَّمِ والتَّشويقِ إلى المُؤخَّرِ فإنَّ ما حقُّه التَّقديمُ إذا أُخِّرَ تبقى النَّفسُ مترقبةً له فإذا وردها يتمكَّن عندها فضلَ تمكُّنٍ {فَضْلاً ياجبال أَوّبِى مَعَهُ} من التَّأويبِ أي رجِّعي معه التَّسبيحَ أو النَّوحةَ على الذَّنبِ وذلك إمَّا بأنْ يخلقَ الله تعالى فيها صوتاً مثلَ صوتِه كما خلق الكلام في الشَّجرةِ أو بأنْ يتمثَّلَ له ذلك. وقرئ: {أُوبي} من الأَوْبِ أي ارْجِعي معه في التَّسبيحِ كلما رجعَ فيه وكان كلَّما سبَّح عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ يُسمع من الجبال ما يُسمع من المسبِّحِ معجزةً له عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وقيل: كان ينوحُ على ذنبه بترجيعٍ وتحزينٍ وكانتِ الجبالُ تُسْعِدُه على نَوحِه بأصدائها والطَّيرُ بأصواتِها. وهو بدل من آتينا بإضمار قلنا أو من فضلاً بإضمار قولنا {والطير} بالنَّصبِ عطفاً على فضلاً بمعنى وسخَّرنا له الطَّيرَ لأنَّ إيتاءَها إيَّاهُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ تسخيرها له فلا حاجة إلى إضمارِه كما نُقل عن الكِسائيِّ ولا إلى تقدير مضافٍ أي تسبيح الطَّيرِ كما نُقل عنه في رواية. وقيل: عطفاً على محلِّ الجبالِ وفيه من التَّكلُّفِ لفظاً ومعنى ما لا يخفى. وقرئ بالرَّفعِ عطفاً على لفظها تشبيهاً للحركة البنائيَّةِ العارضة بالحركةِ الإعرابيَّةِ. وقد جُوِّزَ انتصابُه على أنَّه مفعول معه، والأول هو الوجهُ. وفي تنزيل الجبال والطَّيرِ منزلةَ العُقلاءِ المُطيعين لأمره تعالى المُذعنينَ لحكمه المشعر بأنَّه ما من حيوانٍ وجمادٍ وصامتٍ وناطقٍ إلا وهو منقادٌ لمشيئته غير ممتنعٍ على إرادته من الفخامة المُعربةِ عن غاية عظمةِ شأنِه تعالى وكمال كبرياءِ سلطانِه ما لا يخفى على أولي الألباب.
{وَأَلَنَّا لَهُ الحديد} أي جعلناه ليِّناً في نفسه كالشَّمعِ يُصرِّفه في يده كيف يشاءُ من غير إحماءٍ بنارٍ ولا ضربٍ بمطرقةٍ أو جعلناه بالنِّسبةِ إلى قوَّتِه التي آتيناها إيَّاهُ ليِّناً كالشَّمعِ بالنسبة إلى سائرِ القُوى البشريَّةِ {أَنِ اعمل} أمرناه أنِ اعمل على أنَّ «أنْ» مصدريةٌ حُذف عنها الباءُ وفي حملها على المفسِّرةِ تكلُّفٌ لا يخفى {سابغات} واسعاتٍ. وقرئ: {صابغاتٍ} وهي الدُّروعُ الواسعة الضَّافيةُ وهو عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أوَّلُ من اتَّخذها وكانت قبلُ صفائحَ قالوا: كان عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ حين ملكَ على بني إسرائيلَ يخرجُ مُتنكِّراً فيسألُ النَّاسَ: ما تقولون في داودَ؟ فيُثنون عليه فقيَّضَ الله تعالى له مَلَكاً في صورةِ آدميَ فسأله على عادتِه فقال: نِعْمَ الرَّجلُ لولا خَصلةٌ فيه، فريع داودُ فسألَه عنها فقالَ: لولا أنَّه يُطعم عيالَه من بيتِ المالِ فعند ذلك سألَ ربَّه أنْ يُسبِّب له ما يستغني به عن بيتِ المال فعلَّمه تعالى صنعةَ الدُّروعِ وقيل: كان يبيعُ الدِّرعَ بأربعةِ آلافٍ فينفقُ منها على نفسِه وعيالِه ويتصدَّقُ على الفقراء {وَقَدّرْ فِى السرد} السَّردُ نسجُ الدُّروعِ أي اقتصد في نسجِها بحيث تتناسب حِلَقُها.
وقيل: قدِّرْ في مساميرِها فلا تعملها دِقاقاً ولا غِلاظاً، ورُدَّ بأنَّ دروعَه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لم تكُن مسمَّرة كما يُنبىء عنه إلانةُ الحديدِ. وقيل: معنى قَدِّرْ في السَّردِ لا تصرفْ جميعَ أوقاتِك إليه بل مقدارَ ما يحصلُ به القوتُ وأمَّا الباقي فاصرِفْه إلى العبادة وهو الأنسبُ بقوله تعالى: {واعملوا صالحا} عمَّم الخطابَ حسب عموم التَّكليفِ له عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ولأهلِه {إِنّى بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} تعليلٌ للأمرِ أو لوجوبِ الامتثالِ به.


{ولسليمان الريح} أي وسخَّرنا له الرِّيحَ. وقرئ برفع الرِّيحِ أي ولسليمان الرِّيحُ مسخَّرةٌ، وقرئ: {الرِّياحَ} {غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} أي جريها بالغَداةِ مسيرةُ شهرٍ وجريها بالعَشيِّ كذلك. والجملةُ إما مستأنفةٌ أو حالٌ من الرِّيحِ. وقرئ: {غُدوتُها} {ورَوحتُها}. وعن الحسنِ رحمه الله: كان يغدُو أي من دمشقَ فيقيلُ باصطَّخَر ثمَّ يروح فيكون رَوَاحه بكابُلَ وقيل: كان يتغذَّى بالرَّيِّ ويتعشَّى بسمرقندَ. ويُحكى أنَّ بعضَهم رأى مكتوباً في منزلٍ بناحيةِ دِجْلَة كتبه بعضُ أصحابِ سليمانَ عليه السَّلامُ: نحنُ نزلنَاهُ وما بنيناهُ ومبنيًّا وجدناهُ غدونَا من اصطَّخَر فقلناهُ ونحن رائحون منه فبايتونَ بالشَّامِ إنْ شاءَ الله تعالى.
{وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ القطر} أي النُّحاسَ المُذابَ أسالَه من معدنِه كما آلانَ الحديدَ لدَّاودَ عليهما السَّلامُ فنبع منه نبوعَ الماء من الينبوعِ ولذلك سُمِّي عيناً وكان ذلك باليمنِ وقيل: كان يسيلُ في الشَّهرِ ثلاثةَ أيَّامٍ. وقوله تعالى: {وَمِنَ الجن مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ} إمَّا جملةٌ من مبتدأ وخبرٍ أو مَن يعملُ عطفٌ على الرِّيحَ ومن الجنِّ حالٌ متقدِّمةٌ {بِإِذْنِ رَبّهِ} بأمرِه تعالى كما يُنبىءُ عنه قولُه تعالى: {وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا} أي ومَن يعدلْ منهم عمَّا أمرناهُ به من طاعةِ سليمانَ. وقرئ: {يُزغ} على البناءِ للمفعولِ من أزاغَه {نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السعير} أي عذابِ النَّارِ في الآخرةِ. رُوي عن السُّدِّيِّ رحمه الله كان معه مَلكٌ بيده سَوطٌ من نارٍ كلُّ منِ استعصى عليه ضربَه من حيثُ لا يراه الجنيُّ {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاء} تفصيلٌ لما ذُكر من عملِهم وقوله تعالى: {مِن محاريب} الخ، بيانٌ لمَا يشاءُ أي من قصورٍ حصينةٍ ومساكنَ شريفةٍ سُمِّيتْ بذلك لأنَّها يُذبُّ عنها ويُحاربُ عليها وقيل: هي المساجدُ {وتماثيل} وصور الملائكةِ والأنبياءِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ على ما اعتادُوه فإنَّها كانتْ تعمل حينئذٍ في المساجدِ ليراها النَّاسُ ويعبدوا مثلَ عباداتِهم. وحرمةُ التَّصاويرِ شرعٌ جديدٌ. ورُوي أنَّهم عملوا أسدينِ في أسفل كرسِّيهِ ونِسرين فوقه فإذا أراد أن يصعدَ بسط الأسدانِ ذراعيهما وإذا قعدَ أضلَّه النَّسرانِ بأجنحتِهما {وَجِفَانٍ} جمع جَفْنةٍ وهي الصَّحفةُ {كالجواب} كالحياضِ الكبارِ جمع جابيةٍ من الجباية لاجتماعِ الماء فيها وهي من الصِّفاتِ الغالبةِ كالدَّابة. وقرئ بإثبات الياءِ قيل كان يقعدُ على الجفنةِ ألفُ رجلٍ {وَقُدُورٍ رسيات} ثابتاتٍ على الأَثَافي لا تنزل عنها لعظمِها {اعملوا ءالَ دَاوُودُ شاكرا} حكاية لما قيل لهم وشُكراً نصبٌ على أنَّه مفعولٌ له أو مصدرٌ لاعملُوا لأنَّ العمل للمنعمِ شكرٌ له أو لفعله المحذوفِ أي اشكرُوا شكراً أو حالٌ أي شاكرين أو مفعولٌ به أي اعملُوا شُكراً {وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِىَ الشكور} أي المتوفِّرُ على أداءِ الشُّكرِ بقلبه ولسانِه وجوارحِه أكثر أوقاتِه ومع ذلك لا يوفِّي حقَّه لأنَّ التَّوفيقَ للشكرِ نعمةٍ تستدعِي شكراً آخرَ لا إلى نهايةٍ ولذلك قيل: الشَّكورُ من يرى عجزَه عن الشُّكرِ. ورُوي أنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ جزَّأَ ساعاتِ اللَّيلِ والنَّهارِ على أهله فلم تكنُ تأتِي ساعةٌ من السَّاعاتِ إلا وإنسانٌ من آلِ داودَ قائمٌ يُصلِّي.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7